منتدى واحة الديمغرافيا

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى علمي متميز يهتم بكل ما له علاقة بالسكان والديمغرافيا


    تاريخ الأفكار و النظريات السكانية

    عمرو قضاض
    عمرو قضاض


    المساهمات : 97
    تاريخ التسجيل : 19/04/2013
    العمر : 69
    الموقع : a.kodade@yahoo.com

    تاريخ  الأفكار و النظريات السكانية  Empty تاريخ الأفكار و النظريات السكانية

    مُساهمة  عمرو قضاض السبت يوليو 20, 2013 11:37 am


    النظريات السكانية (*)

    (*) عن الأمم المتحدة‘ أسباب و نتائج التطور السكاني‘...1978‘ ترجمه بتصرف من الفرنسية إلى العربية عمرو قضاض.

    1. اهتم الإنسان منذ غابر الزمن بالقضايا السكانية. توجد منذ القدم أفكار عند رجالات الدولة و مفكرين خاصة بهم و هي مستوحاة من اعتبارات سياسية و عسكرية و اجتماعية و اقتصادية و تتعلق بقضايا مثل العدد الأمثل للسكان في جماعة ما أو ضرورة تشجيع أو إيقاف التزايد السكاني. على الرغم من كون هذه الأفكار تعبر عن الانشغالات السياسية آنذاك وأنها لم تتجاوز حدود التخمينات المبنية على ملاحظات مبعثرة فإنها كانت كافية لتثير القضايا الكبرى التي جسمتها النظريات السكانية المعاصرة. لكن لم تبرز أية نظرية سكانية لها طابع نسقي فعلي إلا في الوقت الحديث.

    2. تسترعي الانتباه هذه النصوص الأولية حول السكان لأنها تجعلنا نستشعر بعض مظاهر النظريات السكانية الأكثر علمية و التي تجسدت فيما بعد‘ غير أن التقدير العام هو أن الخطوط الأولى لبناء نظرية سكانية عصرية بدأت ترتسم فقط في كتابات مالتوس في نهاية القرن الثامن عشر. أثارت أعمال مالتوس اهتماما بالقضايا السكانية و بارتباط معها بالمسائل الاقتصادية و الاجتماعية بحيث أصبحت هذه القضايا مشهورة لأول مرة في التاريخ . أثارت أعمال مالتوس نقاشا واسعا انقسم بين ما هو مؤيد و ما هو معارض‘ و هو ما دفع إلى  دراسة القضايا السكانية و شجع على التطوير المستمر لمناهج الملاحظة و التحليل. منذ عصر مالتوس كثرت الكتابة حول النظريات السكانية و هو ما يفسر أن الجزء الأكبر من الفقرة الحالية مخصصة لهذه الأخيرة.

    3. تتمحور النظريات و الأفكار السكانية‘ كما هو الشأن في العلوم الاجتماعية بصفة عامة‘ حول مشاكل واقعية أو خيالية موجودة بداخل مجموعات بشرية خاصة‘ كما أنها تثير الكثير من الاهتمام عندما تكون معالجتها لهذه المشاكل معالجة مباشرة. اهتمت نظريات فلاسفة اليونان القديمة بالقضايا السكانية التي كانت مطروحة في دولة – مدنية حيث السكان قليلون نسبيا. في العصر الروماني تعكس الأفكار حول السكان انشغالات المجتمع حيث السكان كانوا يعتبرون مصدرا للقوة. في بداية العصر الحديث أدى ظهور الدولة – الأمة و مشاكل القوة الناجمة عنها إلى توكيد أصحاب المذهب التجاري من جديد على المنافع السياسية و الاقتصادية لكثرة السكان. أما نظرية مالتوس فهي تضرب جذورها في المشاكل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية‘ شأنها في ذلك شأن نظرية ماركس حول السكان. في مرحلة لاحقة تمت دراسة القضايا السكانية‘ حسب أهميتها‘ من منظور آخر يشمل الرياضيات و علم الحياة و علم الاجتماع؛ غير أن النظريات السكانية الجديدة تأثرت بعاملين على الخصوص: الأول هو الانفجار السكاني الغير مسبوق في التاريخ و بخاصة في الدول السائرة في طريق النمو‘ الشيء الذي خلق الحاجة إلى معرفة متقدمة لمسألة التزايد السكاني ؛ الثاني هو الاهتمام الكوني تقريبا بقضايا التنمية و هو ما أدى إلى خلق إطار نظري متطور من أجل تحديد العلاقات البينية بين التزايد السكاني من جهة و التنمية الاقتصادية و الاجتماعية من جهة أخرى. في هذه الظروف أصبح من الأهمية بمكان البحث على نظرية سكانية مقبولة ليس فقط لأن بإمكانها  السماح بفهم أفضل لصيرورة التنمية و لكن أيضا لأنها تشكل عنصرا قاعديا في تخطيط و صياغة سياسات التنمية.

    أ. – مخطوطات العصر القديم و العصر الوسيط حول قضايا السكان
    4. من الممكن العثورفي الكتب القديمة جدا على أصل بعض الأفكار التي تكتسي على الخصوص طابعا مهما في الأعمال النظرية الحديثة التي تتعلق بالقضايا السكانية. من أطروحات العصر القديم هناك الأطروحة التي ترى بأن التزايد المفرط للسكان قد يؤدي إلى انخفاض الانتاج عند العامل و تدني مستوى المعيشة عند عامة الناس و حدوث صراعات. ظهرت هذه الأطروحة عند كونفشيوس و مدرسته و كذلك عند فلاسفة الصين القدامى. و يوحي بعض هذه الكتب بأن أصحابها كان لهم تصورا عن الساكنة المتوازنة على الأقل فيما يخص السكان الذين يتخذون من الفلاحة مصدر عيشهم.  افترض هؤلاء وجود علاقة مثالية بين مساحة الأرض و عدد السكان‘ و اعتبروا بأن السلطات العمومية من واجبها الأول الحفاظ على هذه العلاقة و ذلك بتحويل السكان من الجهات التي تتواجد بها كثرة السكان إلى الجهات تقل فيها؛ لكنهم لاحظوا بأن الهجرة العفوية تعمل أحياناعلى تقوية تدابير السلطات.

    5. اهتم كتاب الصين القديمة أيضا بظاهرة أخرى لها أهميتها في النظريات السكانية اللاحقة ألا و هي محاربة التزايد السكاني. لقد لاحظوا بأن الوفيات ترتفع عندما يكون المحصول الزراعي ناقصا وأن الزواج قبل الأوان يؤدي إلى ارتفاع الوفيات عند الأطفال و ان الحروب تقف حاجزا ضد التزايد السكاني و أن التكاليف الباهضة لحفلات الزفاف تحد من الزواج (1)؛ لكنهم لم يعيروا اهتماما كبيرا لصيرورة تكيف عدد السكان مع حجم الموارد (2).  مع ذلك كان مذهب كونفشيوس في العائلة و الزواج و الانجاب لصالح التزايد السكاني أساسا (3).

    6. اهتم مؤلفو الأغريق القدامى بوضع سياسات و قواعد سكانية أكثر من صياغتهم للنظريات السكانية (4).في كتبهما حول الظروف المثالية التي تسمح للإنسان بتطوير قدراته الذاتية‘ نظر كل من أفلاطون و أرسطو في مسألة الساكنة المثلى التي تصلح للدولة – المدنية الإغريقية من وجهة نظر سياسية و أمنية أكثر منها اقتصادية. يعتبر هؤلاء الفلاسفة بأن الساكنة ينبغي أن تكون مستقلة من الناحية الاقتصادية و ذلك بامتلاكها لأراضي شاسعة تمكنها من تلبية حاجياتها و قليلة العدد أيضا حتى يكون بمقدورها السماح بقيام حكومة دستورية (5). كتب أفلاطون الملاحظات الأكثر خصوصية بهذا الشأن في كتابه "القوانين". قدر أفلاطون عدد الساكنة المثالي للدولة- المدنية في 5 ألآف و 40 مواطنا كحد للوصول إلى مرتبة "سيادة الخير". و بما أن المجرى الفعلي للسكان قد يؤدي إلى ساكنة مرتفعة أو إلى ساكنة ناقصة العدد ارتأى أفلاطون مجموعة من التدابير للحفاظ على الساكنة المبتغاة: في حالة نقصان عددها ينبغي توبيخ الشباب و تقديم النصائح لهم وتشريفهم لحثهم على الرفع من معدل الولادة‘ و اللجوء كحل أخير إلى جلب المهاجرين الأجانب؛ أما في حالة التزايد المرتفع للسكان ينبغي محاربته و ذلك بتحديد النسل في العائلات الكثيرة الإنجاب و إذا اقتضى الحال اللجوء إلى النفي خارج المستوطنة (6). عالج أرسطو بدوره القضايا السكانية في كتبه و من جملتها كتاب " السياسة" لكن بدقة أقل من أفلاطون فيما يتعلق بالساكنة المتوازنة و هو يعتبر بأن سلطات الدولة والمساحة ينبغي أن يتوسعا للسكان حتى يصبح بمقدورهم العيش الكريم و الترويح عن النفس في حدود معقولة (7). و في تقديره لا يمكن للأراضي و للخيرات أن تنمو بسرعة كما تنمو الساكنة و يخلص إلى أن كثرة السكان تؤدي إلى انتشار الفقر و الآفات الاجتماعية .  من الوسائل التي يقدمها لتفادي التزايد السكاني هناك بيع الأطفال للأجانب و الإجهاض (Cool.

    7. كانت مقاربة الرومان للقضايا السكانية في إطار إمبراطورية عظمى و ليس في إطار دولة – مدنية صغيرة كما هي عند الإغريق. كان وعيهم بإمكانية تحديد النسل أقل من      وعي الإغريقيين و لكنهم كانوا أكثر إدراكا للامتيازات التي يمنحها التكاثر السكاني من الناحية العسكرية و النواحي المرتبطة بها. و لربما أن الاختلاف في هذا التصور للقضايا السكانية هو الذي جعل الرومان لا يعيرون أهمية للنظريات السكانية. رفض سيسيرون الفكرة الأفلاطونية التي تقول بوجود جماعة مكونة من النساء و الأطفال و دافع على فكرة تطور ساكنة الدولة في إطار الزواج الأحادي (9). إن النصوص التشريعية الرومانية هي الأكثر تعبيرا عن قضايا سكانية مثل التوسع السكاني‘ مناهضة العزوبة' وفكرة كون الزواج يهدف بالأساس إلى الإنجاب. و تجدر الإشارة على الخصوص إلى قوانين الإمبراطور أغسطس التي تمنح الامتياز للأشخاص المتزوجين و الذين لهم أطفال‘ و لا تمنح المساعدات المالية للغير متزوجين و التي كانت تهدف إلى الرفع من معدلات الزواج و الولادة (10).

    8. تعطي الكتب المقدسة اليهودية أهمية كبيرة إلى الإنجاب و التكاثر‘ و هي تعتبر عدم القدرة على الولادة افتقارا خطيرا للأطفال (11). بصفة عامة كانت آراء فلاسفة الشرق   لصالح الخصوبة و التكاثر (12). يوجد عرض لبعض الأفكار حول قضايا السكان ثلاث أو أربع قرون قبل الميلاد في كتاب "أرثازاسترا" و هو يصلح كدليل للحكم وضعه المؤلف كوتلية. في هذا الكتاب  يعالج كوتلية بعض المسائل مثل كثرة السكان التي يعتبرها امتيازا لأنها مصدر القوة الاقتصادية و العسكرية مع الاعتراف بأن عدد السكان قد يتجاوز الحد‘و مسائل أخرى  كعواقب الحروب‘ و المجاعة و الأوبئة ‘ واستعمار الأراضي الجديدة (13).

    9. درس المؤلفون المسيحيون في القرون الأولى و في العصر الوسيط القضايا السكانية من وجهة نظر أخلاقية و معنوية بحتة. كانت مذاهبهم أساسا لصالح التزايد السكاني و لكن بشكل أقل من المؤلفين اليهود.  من جهة فهم يحرمون الزواج المتعدد‘ الطلاق‘ الإجهاض‘ وأد الأطفال و بيعهم للأجانب؛ و من جهة أخرى يمجدون العذرية و العزوف عن الزواج   و لا يوافقون على التزوج مرة ثانية بعد فقدان أحد الزوجين. توجد مبررات العزوبة في  تعاليم القديس بولوس (14). كان بعض المسيحيين الأوائل المدافعين عن عزوبة رجال الدين
    يستند ون إلى أدلة اقتصادية  التي تذكر ببعض أدلة مالتوس. كان التزايد السكاني في العالم آنذاك يعني بالنسبة لهم الفقر و البؤس‘ و كانوا يرون في الأوبئة و المجاعة و الحروب‘ الخ.‘ وسائل تستعملها الطبيعة للتخلص من الفائض السكاني (15). إلا أن  آراء جل المؤلفين كانت تميل لصالح التزايد السكاني كما كان معروفا في الفترة التي سبقتهم.  كانت معدلات الوفيات مرتفعة في جميع أنحاء العالم التي كان يتهددها نقص في السكان من  جراء المجاعات و الأوبئة  و الحروب و هو ما جعل هؤلاء المؤلفين يبدون آراء توافق على معدل مرتفع للولادة. كان معارضو تحديد النسل يستندون في آرائهم ليس فقط على مذهب الكنيسة و لكن أيضا على الخطر المحدق للتناقص السكاني.

    10. تتشابه أفكار المؤلفين المسلمين مع أفكار نظرائهم من اليهود و المسيحيين.  إلا أننا نخص بالذكر الأعمال المهمة‘ و التي لم تكن معروفة خلال حقبة طويلة من الزمن‘ للمؤلف  العربي  ابن خلدون في القرن الرابع عشر. يجدر الاهتمام  بأطروحات ابن خلدون من  ناحيتين: أولا‘ لأنه يعتبر بأن ارتفاع مستوى المعيشة يصبح ممكنا عندما يكون هناك تمركزا للسكان‘ لأن تقسيم العمل يكون عندئذ متقدما و استعمال  الموارد  أكثر تحسنا و الأمن العسكري و السياسي متوفرا بشكل كبير.  ثانيا‘ لأنه يقول بأن الدولة تمر بمرحلتين متعاقبتين تتميز الأولى بفترة رخاء و الثانية بفترة انحطاط‘  و أن التغيرات الدورية لعدد السكان تتناسب مع التغيرات الاقتصادية.  يحصل التزايد السكاني عندما تكون الظروف  الاقتصادية  مواتية و النظام السياسي صالحا و هو ما يؤدي إلى ارتفاع الولادة و تقلص الوفبات؛ لكن فترة التقدم الاقتصادي ينجم عنها بعد حين ظهور الكماليات و ارتفاع الضرائب و حدوث تغيرات أخرى بحيث في ظرف بضعة أجيال تؤدي هذه الوضعية إلى الانحطاط السياسي و الركود الاقتصادي و النقص في السكان (16).


    (1) Huan - Chang Chen, The Economic Principles of Confucius.
    (2) Nancy Lee Swann, Food and Money in Ancient China.
    (3) Charles Emil Stangeland,  Pré-Malthusian Doctrines of Population.
    (4) Edmund Whittaker, A History of Economic Ideas.
    (5) Stangeland, Ibid.
    (6) Platon, Les Lois, environ 340 av. J.-C.
    (7) Aristote, Politique, environ 354 av. J.-C.
    (Cool Aristote, Ibid.
    (9) Cicéron, De la république, environ 44 av. J.-C.
    (10) Stangeland, Ibid
    (11) Genèse i, 28 ; xxviii,14 xxx, 1 et 28 ; Deutéronomme ; Deutéronome xxvi, 5 ; Proverbes xiv, 28 ; xvii ; Jérémie xxii, 30 ; etc.
    (12) Stangeland, Ibid.
    (13) Kautilya, Arthashastra.
    (14) Cornithiens vii; Romains ix; Thessaloniciens  iv; Timothée v, 11 à 14.
    (15) Saint Théophile, Trois livres à Antolique.
    (16) Abdul-Qadir Muhammad ; The Economic Ideas of Ibn Khaldun.


    ب) الطريق إلى النظرية الحديثة
    اتسمت المرحلة القصيرة نسبيا ما بين نهاية القرن الخامس عشر و أواخر القرن الثامن عشر بتحولات عميقة على إثر تطور عقلية الإنسان في مرحلة النهضة. عرفت هذه المرحلة ميلاد الدولة – الأمة‘ الاكتشافات العلمية‘ اكتشاف أراضي جديدة مع التوسع السريع في التجارة‘ الاندثار التدريجي للنظام الإقطاعي الذي كان سائدا في العصر الوسيط و نشوء النظام الرأسمالي فيما بعد الذي أرسى قواعد الثورة الصناعية. انعكس التأثير المتضافر لهذه الأحداث أيضا على تطور الفكر الاقتصادي و على الأفكار التي تتعلق بالسكان.

    1. الميركانتيلية و الفيزيوقراطية و النظريات التابعة لهما
    12.  لعبت الظواهر المذكورة أعلاه دورا كبيرا في ميلاد الميركانتيلية و هي تيار من الأفكار الجديدة التي تعنى بالاقتصاد السياسي الذي تأثر كثيرا بنظريات ماكيافيل و بودان حول مسألة الحكم المطلق (17). اختلف منظرو الميركاتتيلية و "الكاميرالية" في تأويلهم لكلمة "ميركانتيلية"‘ لكن مع ذلك تبقى الفكرة الرئيسية عندهم تتعلق بنفوذ و ثروة الدولة إلى درجة أن البعض منهم اعتبرأن الهدف الرئيسي لسياسة الدولة هو تكديس المال و المعادن النفيسة. تكمن أهم وسائل تحقيق أهداف القوة و الثروة في التوسع الذي عرفته التجارة الخارجية و في خلق بعض الصناعات التحويلية. ارتكز المذهب الميركانتيلي على الاقتصاد أساسا و لم يكن بوسعه صياغة نظرية سكانية بالمعنى الصحيح للكلمة‘ لكنه أعطى للقضايا السكانية حيزا وافرا في آرائه.

    13. هيمنت الأفكار الميركانتيلية على الفكر في أوروبا طيلة القرن السابع عشر تقريبا و جزءا من القرن الثامن عشر. غير أن بعض أطروحات هذا التيار الفكري كانت موجودة في كتب سابقة مثل كتب بوترو. تكمن قوة الدولة‘ حسب بوترو‘ في سكانه و في أولية  الصناعة على الفلاحة (19)؛ لكنه لاحظ أن التزايد السكاني يكون ممكنا قدر ما تسمح به الخصوبة بينما تكون وسائل العيش و القدرة على نموها محدودة وهو ما يحد أيضا من النمو السكاني. تتجلى مظاهر هذه المحدودية في الفقر لأنه لا يشجع على الزواج و في بعض الآفات التي تحدث من فين لآخر كالحروب و المجاعات. لحل لهذه المعضلة يقترح بوترو‘ كما فعل الميركانتيليون بعده‘ إنشاء مستوطنات تساعد على امتصاص الفائض السكاني و تقوي في نفس الوقت من سلطة الدولة (20).

    14.بصفة عامة أكد أصحاب المدرسة الميركانتيلية على مزايا التزايد الكثير للسكان و اقترحوا سياسات تهدف إلى الرفع من النمو السكاني بما في ذلك  التدابير التي تشجع  على الزواج و انتشار العائلة الممتدة‘ و تحسين الصحة العمومية‘ و ضبط الهجرة إلى الخارج‘ و  استيراد المهاجرين الأجانب‘ خصوصا العمال الذين يتوفرون على كفائآت مهنية (21). اعتبر بعض الميركانتيليون أمثال تشايلد و كوك و دوڨونان و بوسوي بأن ثروة البلد الحقيقية تكمن في أكبر عدد ممكن من السكان (22)؛ بينما اعتبر الآخرون أمثال فورتري و بيشر ضرورة تواجد  كثرة السكان و وفرة المال معا (23). وحتى الميركانتيليون الذين لم تكن لهم آراء تذكر عن السكان  كانوا يعتبرون بأن قوة الدولة تكمن في كثرة السكان (24).  اعتبر الميركانتيليون بأن كثرة السكان تمنح امتيازا سياسيا و اقتصاديا لأنها بقدر ما هي عاملا من عوامل قوة الدولة (العسكرية)  بقدر ما تساهم أيضا في الرفع من دخل ومن  ثروة الدولة. و دلوهم في ذلك أنه يمكن تحقيق هذه الأهداف الأخيرة إما عن طريق الرفع من الدخل الكلي للدولة و إما عن طريق توسيع الهامش بين الناتج الداخلي و كتلة الأجور الذي يحدثه النمو السكاني بفضل تواجد أعداد مهمة من الساكنة النشيطة‘ نظرا لما لها من تأثيرايجابي على ارتفاع الدخل (25) في الوقت الذي  تسمح فيه بخفض الأجور و بالتالي من الكلفة (26). كان تمبل يؤكد على أن كثافة السكان هي أساس الثروة لأنه في نظره عندما يكون السكان مبعثرون يسهل عليهم التعاطي لاقتصاد المعاش و بالتالي التعاطي للكسل و على نقيض ذلك عندما يكون السكان أكثر كثافة فإنهم مجبرون على أن يشقوا من أجل العيش و هو ما يخلق مواقف مناسبة للنشاط الاقتصادي و للتنمية الصناعية (27). يعتبر جل الميركانتيليين بأن كثرة السكان و التزايد في الموارد البشرية هي امتيازات خصوصا إذا كانت تسمح بتطوير الصناعات التحويلية  لأن هذه الصناعات‘ على عكس الفلاحة‘ هي مذرة للأرباح المتصاعدة و أنه يمكن تسويق منتوجاتها بالخارج مقابل الحصول على المعادن النفيسة التي كانت تعتبر آنذاك من بين أهم عناصر الثروة عند الأمم.

    15. إذا كان الميركانتيليون يرغبون عموما في كثرة السكان لم يكونوا كلهم متفقين على العدد الأمثل للسكان بحيث اختلفوا حول هذه المسألة. اعتبر الكثير منهم بأن ما يحدد عدد السكان هو كمية المواد الغذائية التي ينتجها البلد أو يشتريها من الخارج (28)؛ أما في تقدير الآخرين لا توجد أهمية لوفرة العرض عند اليد العاملة إلا إذا توفر الشغل لهذه الأخيرة أو إذا كان عدد السكان مرتبطا بعدد الوظائف المتوفرة (29). لاحظ سبنغلر بأن  هاجس التزايد السكاني موجود عند البلدان التي عانت من النقص السكاني مثل ألمانيا و اسبانيا و أنه أقل عند بلدان كانت تخشى المزيد من السكان مثل فرنسا و ائطاليا و خصوصا انجلترا. فضلا عن ذلك اعتبر سبنغلر أن المدافعين عن كثرة السكان فقدوا الكثير من تأثيرهم خلال النصف الأخير من القرن الثامن عشر و هي الفترة التي كان يعتقد فيها بأن ما يحدد عدد تزايد السكان هو ازدياد وسائل العيش (30). درس بعض الميركانتيليون و الكاميراليون العوائق المختلفة التي تحول دون التزايد السكاني  من أوبئة و حروب و ظروف مناخية و عدم القدرة على الانجاب المنسوبة إلى الحواضر و إلى أسباب أخرى مثل الشذوذ الجنسي و الاجهاض و تأخير سن الزواج و الدعارة و الوفيات و آثار الهجرة  إلى المستوطنات و كذا هجرة العمال المتخصصين القادمة من الخارج‘ لكن أصحاب هذه الأفكارعموما‘ لم يبحثوا عن تفسير نسقي للتطور السكاني و لأسبابه.

    16. سلكت الفيزيوقراطية طريقا معارضا لأفكار و سياسات المركانتيليين و بالتالي عارضت تدخل الدولة و تقنين التجارة و بعض مظاهر الفكر الميركانتيلي. يرتكز المفهوم الأساسي للفكر الفيزيوقراطي‘ حسب جايد و رايست‘ على "الوضع الطبيعي" و يعتبر بأن دور الأرض في الإنتاج هو العنصر الاقتصادي  الذي ينبغي وضعه في المقام الأول (31). بخلاف الميركانتيليين أعطى الفيزيوقراطيون قيمة إستراتيجية عالية للأرض: تقوم التنمية الاقتصادية برمتها‘ في نظرهم‘ على الرفع من الإنتاج الفلاحي. قوبلت مبادئ الميركانتيليين عندهم بالرفض و عارضوا على الخصوص السياسة الميركانتيلية للتزايد السكاني التي لا تأخذ بعين الاعتبار مستوى المعيشة. غير أنهم كانوا عموما متفقون مع التزايد السكاني شريطة أن يتم الرفع من الإنتاج الفلاحي الكافي لعيش أعداد السكان المتزايدين. كان بعض الفيزيوقراطيين متفائلا بهذا الخصوص و البعض الآخر متشائما.

    17. تقاسم كانتيون‘ الذي يمكن اعتباره من بعض النواحي ميركانتيليا‘ أفكار الفيزيوقراطيين. كان يعتبر بأن الأرض هي المحدد الرئيسي للثروة و أن مجموع ما تجيده الأرض من خيرات معيشية قد يحد من الأهمية الرقمية للسكان. ميز كانتيون في شرحه للتوجهات السكانية بين الشرائح الاجتماعية التي تحافظ على البقاء و حيث أن  عددها الأقصى يتحدد بتواجد وسائل البقاء على قيد الحياة و الشرائح الاجتماعية الغنية  من نبلاء و أعيان و غيرهم الذين تعودوا على مستوى معيشي معين و حيث أنهم مستعدون للعزوف عن الزواج أو تأخيره للحفاظ على هذا المستوى المعيشي (32).

    18. يعتبر كيسناي‘ وهو من أشهر الفيزيوقراطيين‘ بأن كثرة السكان شيء مرغوب فيه  لكن بشرط أن يعيش الجميع في الرفاهة. في أبجديات بياناته المرقمة 25 و 26 يوضح بأنه من الصواب أن يحظى الازدياد في الثروة اهتماما أكبر من السكان. في نظره يؤدي ازدياد السكان إلى الرفع من وسائل العيش بدليل أن الفقراء و الأشخاص المعوزين موجودون على الدوام. لا حظ كيسناي و أصحابه بأن المستوطنات تصلح كمخرج للتكاثر السكاني و أكدوا في نفس الوقت على ضرورة أن الهدف المنشود يكمن في الزيادة في الإنتاج الفلاحي و الناتج الصافي و ليس في السكان (33). يرى ميرابو بأن كثرة السكان شيء مرغوب فيه  وهي مرتبطة بوسائل العيش‘ كما يؤكد في نفس الوقت على ضرورة تشجيع الفلاحة بجميع الوسائل التي يمكن تصورها 34). كذلك كان يفكر مرسيي  دو لاريڨيير  فيما يخص السكان و وسائل العيش‘ و في تقديره إذا عمدت الحكومة إلى تحسين تقنيات الفلاحة يصبح نمو الإنتاج متجاوزا للنمو السكاني (35).

    19. مع الثورة الفرنسية وصل تفاؤل مؤلفي القرن الثامن عشر في تغذية ساكنة متزايدة إلى ذروته (36). تجدر الإشارة إلى كاتبين على الخصوص: غولدوين و هو فيلسوف و مصلح اجتماعي و كوندورسي وهو عالم رياضي و فيلسوف. كان عند غولوين إيمانا غير محدود في العلوم و كان يؤكد على أن التقدم العلمي يضاعف من المنتجات الغذائية إلى درجة أن الشخص يسعه أن يشتغل نصف ساعة فقط في اليوم لتغطية حاجاته. لم يكن يفكر في أن هذا الرخاء قد يؤدي إلى كثرة السكان لأنه كان يرى في العقل البشري     القوة اللازمة لكبح جماح الرغبة الجنسية و لتحديد النسل. يعزى فقر الشعب و شذوذ المجتمع السائدين في وقته‘ في نظره‘ إلى الفوارق التي تفرضها المؤسسات الاجتماعية (37).  كان كوندورسي يكن للعلم ولمستقبل المجتمع نفس الإيمان: يمكن للعلم أن يزيد في عمر الإنسان و أن يجنب الظروف الإنسانية الكثير من المعاناة و ذلك بفضل إنتاج غذائي  لا يخطر على بال و بفضل تحكيم العقل الذي لا يسمح بنمو لا معقول للسكان (38).

    (17) Machiavel,  Le Prince, ed anglaise 1963.
    (18) Heckscher, Mercantilism, 1935.          
    (19) Botero, The Reason of State and the Greatness of Cities, 1960.
    (20) Botero, Ibid.
    (21) Stangeland, Ibid.
    (22) Child, A new Discourse on Trade, 1964.
    (23) Fortrey, England ‘s Interest and Improvment…, 1973.
    (24) Mun, England’s Treasure by Forraign Trade, 1964.
    (25) Child, Ibid.
    (26) Mandeville, The Fable of the Bees, 1723.
    (27) Temple, Observations upon the United Provinces of the Netherlands, 1696.
    (28) Becher, Politiche Diskurs von den eigentlichen Ursachen…,1698.
    (29) Child, Ibid.
    (30) Spengler, Mercantilist and physiocratic growth theory, 1965.
    (31) Gide et Rist, Histoire des doctrines économiques, 1947.
    (32) Cantillon,  Essai sur la nature du commerce en général, 1949.
    (33) Quesnay, Œuvres économiques,…1888.
    (34) Mirabeau, L’ami des hommes et traité de la population,…1904.
    (35) Mercier de la Rivière, L’ordre naturel et essentiel des sociétés politiques, 1767.
    (36) Fage, La Révolution française et le problème de la population, 1946.
    (37) Godwin, An Enquiry Governing Political Justice, 1946.
    (38) Condorcet, Esquisse d’un tableau historique,…,1796.


                 
    2. الحساب السياسي
    20. تطورت الأفكار السكانية بشكل ملحوظ في الفترة ما بين نهاية القرن الخامس عشر و نهاية القرن الثامن عشركما أجريت أيضا خلال هذه الفترة أولى القياسات و التحاليل بشكل نسقي للتوجهات السكانية.  جون غراونت هو أول من اكتشف في كتابه "ملاحظات طبيعية و سياسية لبيانات الوفيات"...‘ الذي تم نشره سنة 1962‘ نظاما ضمنيا  في سجل إحصاء الحالة المدنية. لاحظ غراونت التكرار المنتظم لبعض الظواهر السكانية  خصوصا في "فواتير الوفيات"‘ وهي عبارة عن تقارير حول الجنازات‘ مضاف إليها بعض الأحداث كالولادات و غيرها‘ بمدينة لندن.  درس حينها مسائل  سكانية مثل معامل الذكورية للولادات‘ العلاقة بين الجنازة و التعميد في مدينة لندن و مقارنتها مع نظيرتها في تجمع سكني قروي‘ تكرار الولادات و الوفيات حسب عدد السكان‘ علاقة الولادات  بالزواج كمؤشر للخصوبة‘ الخ. فضلا عن ذلك قدم غراونت ملاحظات بشأن قضايا  مثل الهجرة القروية‘  آثار الحروب و الهجرة الخارجية على معامل الذكورية ‘ مساحة لندن الممتدة بشكل فائق‘ النمو المستقبلي لهذه المدينة‘  وقدم مشروعا تخطيطيا لجداول الوفيات (39).

    21. أما وليام بيتي‘ الذي كان غراونت مساعدا له (40)‘ فهو لم يقتصر فقط على تحليل بعض المظاهر السكانية التي عالجها غراونت و لكن أيضا أقر بامكانية تطبيق الحساب   على المسائل السكانية و الاقتصادية و "السياسية" عند دراستها. وضع بيتي تصورا "للحساب السياسي" يتضمن دراسة معمقة للسكان من وجهة نظر الشؤون الإنسانية.  تعتبر هذه الدراسة التشكل الأول لعلم السكان الحديث.  أظهر بيتي الأهمية التي تكتسيها الساكنة باعتبارها  "رأسمالا بشريا" و صرح بأن اليد العاملة "هي أب الثروة ومبدءها الفاعل ‘ كما أن الأراضي هي لها بمثابة الأم" كان أيضا أول من حاول تقييم "الرأسمال البشري" و الدخل‘ و هو يعتبر أول من أدخل إلى الدراسات السكانية و الاقتصادية  تقسيم النشاط إلى أنشطة أولية و ثانوية و ثالثية  (41).

    22.  في حوالي النصف من القرن الثامن عشر طور زيسميلش الأبحاث التي وضعها  غراونت و بيتي. رأى زيسميلش في انتظام الحركات و العلاقات السكانية أثر اليد الإلهية التي تحكم المجتمع البشري. لما تبين له بأن عددا من الحواجز تعترض التزايد السكاني كتب بأن ذلك يرجع ربما إلى أحد الوسائل التي تحول دون حصول الفائض السكاني‘ و   أنه يمكن اعتبارهذه الحواجزعلى الخصوص عقوبات إلهية. درس زيسميلش عددا كبيرا من العوامل السكانية و علاقاتها البينية بما في ذلك معامل الذكورية عند الولادة وعند الأعمار المتقدمة‘ توزيع الوفيات حسب العمر و حسب سبب الوفاة‘ العلاقات بين  أهمية الساكنة العددية و الزواج و الولادات‘ الخ. فضلا عن أنه وضع أول جدول للوفيات في بروسيا القيصرية‘ تناول بالتحليل آثار السن عند الزواج و انقطاع الزواج بسبب موت أحد الزوجين و رضاعة الأطفال و غيرها من العوامل على الخصوبة (42). لاحظ على غرار غريغوري كينغ و آخرون (43) بأن الساكنة تنمو نموا مكعبا و قدر  بأنها تتضاعف في ظل ظروف عادية كل قرن تقريبا‘ و تتضاعف كل 42 سنة في ظل ظروف معينة.

    23. على الرغم من أن معظم المؤلفين الذين ينتمون لهذه المرحلة التقليدية كانوايميلون في آراءهم  لصالح التزايد السكاني اعترفوا أيضا بأن عدد السكان مرتبط بوسائل العيش. تكمن أهمية مساهمتهم في أنهم شكلوا قطيعة مع محدودية الماضي  و فتحوا آفاقا واسعة لصياغة النظرية السكانية الحديثة رغم قلة المعطيات الإحصائية في وقتهم و غياب المفاهيم الأساسية و مناهج التحليل.


    (39) Graunt, National and Political Observations,..,1662.
    (40) Il semble que c’est Petty et non Graunt qui rédigea ‘National and Political Observations’ : voir Hull, éd., The Economic Writing of Sir William Petty, vol 1…1899.                          
    (41) Petty, Political Arithmetick,…,1691.
    (42) Süssmilch, Die göttliche Ordnung in den Veränderungen…,1775.
    (43) King, Natural and political observations and conclusions,…,1696.


    ت. - نظرية مالتوس
    24. عرف القرن الثامن عشر تغيرا عميقا في المناخ الفكري. كان لهذه التحولات أثرا حاسما على النظرية الاقتصادية و الاجتماعية و على النظرية السكانية على حد سواء. في عصر الأنوارهذا بدأ التخلي عن المعتقدات الدينية و الفلسفية القديمة و أصبح الناس يعتقدون  بشكل كبير  بأن المؤسسات البشرية تخضع لنظام طبيعي كانت الاكتشافات العلمية قد برهنت على وجوده  في العالم الفيزيائي. غير أن الأفكار كانت متضاربة حول خاصية هذا " النظام الطبيعي".  اعتبر كوندورسي و غودوين مثلا بأن المجتمع" الطبيعي "   هو مجتمع حيث ينبغي التدبير الجماعي لخيرات الطبيعة و حيث أن العلم يعمل على ضمان تقدمه باستمرار. ر فض مالتوس هذه الأفكار و بقي محافظا على تقاليد عصره كما بنى فكره على تصوره الخاص للعلاقات الضرورية التي عبر عنها في مبدإه عن السكان.  اعتقد مالتوس في حتمية وجود مجتمع طبقي حيث الفقراء محكوم عليهم بالعيش في مستوى المعاش عوض وجود مجتمع تعادلي يتقدم باستمرار.

    25.  كان بعض المؤلفين أمثال بوتيرو في القرن السادس عشر (44)  قد أكد بأن قدرة الانسان على الانجاب غير محدودوة على عكس قدرته على انتاج الوسائل  التي تسمح له بالمعاش. في منتصف القرن الثامن عشر أثار ولاس الانتباه إلى مسألة الوقت القصير نسبيا الذي يمكن للساكنة أن تتضاعف فيه  بخلاف قدرة الانتاج الغذائي التي تتطلب وقتا أطول لكي تتضاعف (45). كانت أفكارا مماثلة لهذه تروج في باقي جهات العالم. في العقد الأخير من القرن الثامن عشر لاحظ المؤلف الصيني  هونغ ليانغ – تشي  عدم التناسب في ااتزايد بين السكان و وسائل المعاش. في تقديره إذا كان تزايد السكان خلال قرن من الزمن يتم بمقدار 5 إلى 20 مرة مستوى عددهم الأصلي فإن تزايد وسائل المعاش خلال تفس الفترة لا يمكن أن يكون سوى بمقدار يتراوح بين ثلاثة و خمسة  أضعاف هذا المستوى نظرا لمحدودية مساحة الأراضي (46).
         
    26. تميزت أفكار مالتوس عن باقي الأفكار بقوتها التعبيرية‘ و هو أول من صاغ نظرية سكانية منسجمة و شمولية و ذلك بارتباط مع الأوضاع الاقتصادية‘ الشيئ الذي جعل كتاباته تؤثر بقوة على نظرية السكان و على الاقتصاد. عرض أفكاره حول السكان في  كتابه:
    Essay on the Principle of Population

    الذي نشره لأول مرة سنة 1798 (47). كان الكتاب في نسخته الأولى عبارة عن انتقادات وجهها إلى من سبقه من المؤلفين المتفائلين أكثر منه  بشأن ضمان وسائل المعاش لساكنة تتكاثر باستمرار.  انتقد مالتوس بشكل خاص فرضيات كوندورسي حول مثالية الانسان و أفكار غودوين حول التعادلية الاجتماعية و قوله بأن الانحرافات الاجتماعية هي وليدة المؤسسات الاجتماعية. كان مالتوس ينظر إلى المؤسسات الاجتماعية في عصره على أنها طبيعية و حتمية و أقر بأن " القوانين اللامتغيرة للطبيعة البشرية لا تسمح بتاتا للطبقات الاجتماعية المتنحطة بأن تتحرر من ضغط الحاجة".  و أنه "  لا توجد علاقة فعلية لشكل الحكومة بالسبب الرئيسي و المستمر للفقر أو باللامساوات في توزيع الثروة". بعدما طرح المبدأ القائل بأن الانسان لا يقدر على الرفع من وسائل المعاش سوى بطريقة حسابية  بينما التوجه العام للسكان هو التزايد بطريقة مكعبة‘ أكد مالتوس‘ في جوابه على غيره من المتفائلين‘ على أن قدرة الانسان على الانجاب تفوق بكثير قدرته على ضمان نمو وسائل المعاش و أن الآفات التي تنجم عن التزايد السكاني المفرط هي حقيقية و كانت موجودة على الدوام. يظهر تاريخ الانسانية ‘في رأيه‘ بأن التزايد السكاني كان دائما في الحدود التي تسمح بها وسائل المعاش بذلك و  أنه لا يمكن تجاوز هذه الحدود نظرا للعوائق الوقائية و الزجرية التي‘ إذا ما طرحنا جانبا مسألة تأخير الزواج‘ تتمثل في "الآفات" و في  "الانحراف" (48).

    27. في النسخة الثانية و ما بعدها من الكتاب و بعد مراجعة معمقة و إضافات مهمة له ‘ طور مالتوس نظريته و عالج بعمق مسألة كون السكان سببا رئيسيا في الفقر (49). نعرض فيما يلي إلى اقتراحاته الأساسية:
            "1. تحدد وسائل المعاش بالضرورة الأهمية الرقمية للسكان. 2. يتزايد السكان من غير تغير عندما ترتفع وسائل المعاش اللهم إلا إذا كانت هناك عوائق ظاهرية قهرية تحول دون ذلك. 3. هذه العوائق‘ إلى جانب عوائق أخرى التي تحصر التزايد السريع للسكان في الحدود التي تسمح بها وسائل المعاش‘ يمكن ارجاعها في مجموعها إلى الإكراه الأخلافي‘ إلى الانحراف و إلى "الآفة".
    بعدما صرح مالتوس بأن قوى قاهرة تحد من التزايد السكاني انكب على معالجة مسألة النمو الطبيعي للسكان في غياب هذه القوى و تساءل عن المعدل الذي ينبغي فيه لوسائل المعاش أن ترتفع. من هذا المنطلق صاغ اقتراحين أساسيين: تتضاعف الساكنة كل 25 سنة ‘ بمتتالية هندسية‘ بينما في الظروف المواتية يتنامى الناتج الفلاحي بنفس الكمية خلال نفس الفترة بمتتالية حسابية. ثم يخلص إلى القول أنه " إذا ما اعتبرنا مجموع العالم ... تتزايد الساكنة حسب المتتالية 1‘ 2‘ 4‘ 8‘ 16‘ 32‘ 64‘ 128‘ 256‘ و وسائل المعاش حسب المتتالية 1‘ 2‘ 3‘ 4‘ 5‘ 5‘ 6‘ 7‘ 8‘ 9.  في غضون قرنين ستكون العلاقة بين السكان و وسائل المعاش 256 / 9... (50)".  

    يفترض مالتوس بأن قانون المردودية التراجعية ينطبق عموما على الفلاحة (51). حسب رأيه توجد عوائق أخرى تعمل على إبقاء التزايد السكاني في مستوى وسائل المعاش غير تلك التي تؤدي إلى الخصاصة في التغذية الناجمة عن الفوارق الحاصلة بين معدلات التزايد السكاني و الإنتاج الغذائي. يصنف هذه العوائق الأخيرة إلى صنفين: العوائق الوقائية و العوائق القهرية. تتميز الأولى بكونها إرادية - اختيارية  بفضل امتلاك  الإنسان للقدرة على التفكير التي تمكنه من استحضار العواقب البعيدة الأمد و تجعله يفهم الإكراه الأخلاقي  الذي يلزمه بالابتعاد عن الانحراف  الذي يتخذ أشكالا متعددة ( الوقاية من الحمل‘ العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج‘ الدعارة) و تأجيل الزواج إلى أجل مسمى؛ أما العوائق الثانية فهي قهرية و يمكن أن تكون متنوعة جدا و تشتمل على جميع العوامل التي تساهم و لو بالقليل في تقليص مدة الحياة العادية بما في ذلك الأوبئة و الحروب و الطاعون و المجاعة و هي جميعها مظاهر" للآفات" التي تصيب المجتمع. على الرغم من كون أحد هذه العوائق أو أكثر يؤثر على جميع البلدان يقر مالتوس بأنه لا توجد سوى حالات نادرة يكون فيها التزايد السكاني أقل سرعة من نمو وسائل المعاش (52). يخلص مالتوس إلى القول بأنه في مثل هذه الظروف يشكل الإكراه الأخلاقي و أيضا بعض عادات المجتمع الوسيلة الوحيدة الممكن تطبيقها و المقبولة أخلاقيا  لمنع النمو الفوضوي للسكان (53). و بما أن تطور وسائل المعاش يحد من تزايد السكان‘ لا يمكن تشجيع الزواج‘ رغم تعارض ذلك مع  الإكراه الأخلاقي‘ لاعتبارات أخلاقية أكثر تطورا. كذلك  لا يعني تخفيض معدل الوفيات التي تنجم عن سبب معين سوى رفع معدل الوفيات التي تنجم عن سبب آخر (54).

    29. درس مالتوس الظروف السائدة في مختلف البلدان و المجتمعات بهدف تعليل أطروحته و خلص إلى القول بأن تاريخ الإنسانية يشهد على صحة مقترحاته الأساسية (55)‘ إلا أن مقاربته تبقى مع ذلك مفتقرة إلى الموضوعية التامة و تأويله للأحداث محدودا جدا‘ وهو ما لم يسمح له بالفهم بأن مخططه السكاني ليس حتميا كما كان يظن  وكما  برهنت على ذلك تجربة البلدان التي حققت أو كانت على وشك تحقيق الثورة الصناعية.

    30.  يرجع تأثير مالتوس على معاصريه والنقاش الذي أثارته أفكاره بين مؤيد و معارض إلى تحجر تصوراته للمجتمع أكثر منه إلى مبدئه في السكان. تظهر فكرة مالتوس التي تنفي على الخصوص إمكانية تحسين ظروف عيش الفقراء عن طريق التوزيع المتكافئ للدخل في دراسته لقانون الفقراء
    The poor laws
    الذي تبنته انجلترا آنذاك. كان يعتبر بأن  نظام المساعدة الاجتماعية هذا لا يعمل سوى على تشجيع التزايد السكاني و الرفع من الأسعار و بخاصة تفقر الطبقات العاملة التي يفوق مستواها مباشرة مستوى طبقة المعوزين‘   في الوقت الذي كانت فيه وفرة المواد الغذائية محدودة (56). أصبحت هذه الأطروحات‘ على المستوى السياسي‘ أفكارا ساخنة في النقاش الذي دارت رحاه بشأنها في انجلترا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر (57).  قوبلت أفكار مالتوس الاجتماعية المتحجرة بمعارضة قوية من طرف معارضي  النظام القائم و هو ما أضفى  تعقيدا على النقاش  حول نظريته في السكان (58)‘ إلا  أن هذا النقاش المتضارب  بين الخصوم و الأتباع كان له الفضل في الإقرار بوجوب فهم أحسن للتوجهات السكانية و علاقاتها بالظروف الاقتصادية و الاجتماعية (*).


    (*) يتبين من خلال هذه القراءة‘ التي أقدمها للقارئ الفاضل باللغة العربية‘ للدراسة التي قام بها خبراء الأمم المتحدة حول موضوع النظريات السكانية:

    أولا‘ أن الفكر السكاني هو إرث مشترك للإنسانية جمعاء و هو قديم قدم الحضارات البشرية المتعاقبة في الزمن وأن النظرية الحديثة للسكان التي يعتبر مالتوس واضعها الأول لم تخلق من عدم بل يمكن اعتبارها تتويجا لجهد فكري طويل في تاريخ الانسانية‘ كما أنها فتحت آفاقا واسعة أمام التقدم العلمي للديمغرافية بوصفها علما قائما بذاته و مستقلا عن العلوم الأخري منذ أن أرسى قواعده جون غراونت و وليام بيتي في انجلترا.

    ثانيا‘ إلى حدود القرن الرابع عشر كانت أهم النصوص المرجعية في التقليد اليهودي – المسيحي تعتمد على النصوص المقدسة و لم يكن هناك فكر يذكر بينما في العالم الإسلامي تعتبر آنذاك نظرية ابن خلدون في تطور المجتمعات من الناحية العلمية شرحا مهما للعلاقة بين التمركز السكاني و تقسيم العمل و تطور الاقتصاد و المجتمع.

    ثالثا‘ أن ظهور النظرية الحديثة على يد مالتوس بقدر ما تعبر عن التقدم العلمي الهائل في الفكر السكاني بقدر ما يمكن القول بأن الأفكار التي مهدت لظهورها أو رافقتها أو أثارتها لاحقا لا زالت تتمتع بقيمة حقيقية في الفكر الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي كما أن نظرية مالتوس نفسها إذا كانت اليوم متجاوزة في البلدان الما بعد صناعية‘ بفضل التقدم العلمي و التقني و الإمكانيات الهائلة التي يتيحها لاستغلال الموارد الطبيعية و الرفع من الإنتاج‘   فإنها على العكس من ذلك لها أهمية خاصة في البلدان حيث الخصوية  لا زالت مرتفعة. وتجدر الإشارة إلى أن أطروحة مالتوس في ضرورة تطور الأخلاق جديرة بالاهتمام و لها اليوم أهمية خاصة في المسائل الأخلاقية التي تتعلق بتحديد النسل و الإجهاض وغيرها.

    رابعا‘من الممكن اقتراح حلول للمشاكل التي يطرحها الوضع السكاني ‘كما أن التنمية الاقتصادية و الاجتماعية هي عملية واعية بدأت تتبلور بشكل مستمر منذ عصر النهضة الأوروبي الذي شهد تغيرا في طريقة التفكير نجمت عنه تحولات عميقة في المجتمع و في المؤسسات.
       
    خامسا‘ أن الفهم العلمي الصحيح للعلاقات البينية بين العوامل السكانية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية في البلدان العربية يفترض قبل كل شيئ استيعاب الإرث الفكري السكاني و ربطه بالمراحل التاريخية لتطوره و ما تنطوي عليه هذه المراحل من بنيات أو مؤسسات سياسية و اجتماعية و إنتاجية. و لعل أن الفهم الصحيح لقضايا السكان في العالم العربي يمر بالضرورة بالمجهود الفكري الذي لا محيد عنه لاستيعاب الفكر العلمي السكاني و تطويره باللغة العربية في إطار الحداثة الفكرية المعاصرة.

    (44) Botero, The Reason of State and the Greatness of Cities, 1960.
    (45) Wallace, Variuos Prospects of Manlind, Nature and Providence , 1761.
    (46) Ho, Studies on the Population of China, …1959.
    (47) Malthus, An Essay on the Principle of Population as it affects the Future Improvement of Society,….1798.
    (48) Ibid, chp 2, 4, 7.
    (49) McCleary, The Malthusian Population Theory, 1953.
    (50) Malthus, An Essay on The Principle of Population ; 7è éd, 1872.
    (51) Ibid.
    (52) Ibid, chp 2.
    (53) Ibid, livre 4, 1 à 4.
    (54) Ibid, livre 4, chap 5.
    (55) Ibid, livre 1, chap 3 à 14 ; livre 2, chap 1 à 10, 13.
    (56) Ibid, livre 3, chap, 5 à 7.
    (57) Court, A CONCISE Economic History of Britain, 1954.
    (58) Sauvy Alfred, Malthus et les deux Marx,…1963.

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 26, 2024 2:13 am