منتدى واحة الديمغرافيا

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى علمي متميز يهتم بكل ما له علاقة بالسكان والديمغرافيا


    تاريخ الأفكار و النظريات السكانية (تابع)

    عمرو قضاض
    عمرو قضاض


    المساهمات : 97
    تاريخ التسجيل : 19/04/2013
    العمر : 69
    الموقع : a.kodade@yahoo.com

    تاريخ الأفكار و النظريات السكانية (تابع) Empty تاريخ الأفكار و النظريات السكانية (تابع)

    مُساهمة  عمرو قضاض الثلاثاء يوليو 23, 2013 6:16 pm



    ث) علاقة نظرية السكان  بالمدارس الاقتصادية الكلاسيكية و الكلاسيكية – الجديدة.

    خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر هيمن حدثين بارزين على النظرية السكانية كان أحدهما هو إدماج كتاب مبدأ السكان في "المدرسة الكلاسيكية" و هو ما وضعه في إطار نظرية التنمية الاقتصادية‘ هذا في الوقت الذي كثرت فيه الانتقادات لأفكار مالتوس سواء من طرف أصحاب النظرية الاقتصادية التقليدية أو من طرف الغير الاقتصاديين (59).

    1. علاقة نظرية مالتوس بنظرية التنمية الاقتصادية عند المدرسة الكلاسيكية
     
    32. لم تكن "المدرسة الكلاسيكية" مدرسة بمعنى الكلمة (60). كان يجمع بين أصحابها نوعا من الوحدة في الأفكار لأنهم اهتموا بالقوانين التي تحدد مستوى و منحى الإنتاج ‘ و كذا توزيعه  بين الأجور و الفائدة و الريع و الربح؛ و كانت أيضا بينهم اختلافات أساسية في وجهات النظر حول آفاق التنمية الاقتصادية. كان بعضهم متفائلا بهذا الشأن بينما كانت نظرة غالبيتهم إلى المستقبل نظرة سوداوية. بنا هؤلاء المفكرين نظريتهم على ما يسمى "الحالة المستقرة" بالارتكاز على نظرية مالتوس السكانية و على قانون المردودية التراجعية‘ و هي نظرية تزعم تفسير كيف أن تفاعل القوى في مسرح الأحداث يؤدي إلى توازن الظروف بحيث يكون فيها السكان و الدخل مستقرين وهو ما يؤدي بالتالي إلى توقف عجلة التنمية (61).

    33. كان كل من سيرا و ستيوارت و تيرغو أول من وضع قانون أو مبدأ المردودية التراجعية و كان يُعتقد بأنه لا يصلح سوى للفلاحة على عكس الصناعة التي تسمح إمكانياتها بالزيادة في تقسيم العمل و بالتقدم التقني وهو ما يُتيح مردودية ثابتة‘ بل ومتصاعدة. كان يُحتسب بأن مردودية الفلاحة تبدأ في التراجع بعد تجاوزها حدّا معينا على الأقل و ذلك لاعتبارين: أولا لأن مساحة الأراضي و قدرتها على العطاء محدودة‘ و ثانيا لأن الفلاحة لا تسمح  بتطوير تقسيم العمل و لا بتطبيق التقدم التقني‘ إلاّ بقدر ضئيل. غير أنه في غياب التقدم التقني واعتبارا لمحدودية مساحة الأراضي الخصبة تكون النتيجة على الأمد البعيد هي  استحالة الرفع من الإنتاج الفلاحي  واللجوء إلى استغلال أراضي أقل خصبة حيث أن مردوديتها  تقل رغم عدم النقصان في حجم العمل أو اللجوء إلى الزيادة‘ بنسبة  قارة‘ في اليد العاملة و الرأسمال‘ و هو ما لا يسمح‘ إلى حد ما‘ بالرفع التناسبي للإنتاج (62). تضاربت الأفكار بشأن مدى مساهمة العوامل الأخرى في التعويض عن منحنى التراجع في مردودية الفلاحة. اعتبر البعض‘ بشيء من التفاؤل‘ أن تحسين التقنيات الفلاحية و طريقة الإنتاج  قد يمنع المردودية الفلاحية من التراجع بشكل سريع‘ لكن رغم ذلك ستتراجع هذه المردودية حتما إذا ما استمر السكان في التزايد (63). أما البعض الآخر رأى بأن الصناعة  تسمح ربما بالزيادة في المردودية ‘ لكن في تقديرهم لا يمكن لتقسيم العمل ولا للتقدم التقني أن  يعوضّا عن تراجع المردودية الفلاحية نظرا لكون الصناعة مرتبطة جزئيا بالمواد الأولية الفلاحية (64).

    34.  أعادت المدرسة الكلاسيكية من جديد تصورها لنظرية الأجور‘آخذة هذه المرة باقتراح مالتوس الذي يقول بأن وسائل المعاش تحد من الأهمية العددية للسكان و أن هذه الأخيرة تزداد ارتفاعا مع ارتفاع وسائل المعاش إذا لم يُتخذ أي إجراء لمنعها من ذلك. حسب هذه المدرسة تتجه الأجور إلى مستوى يسمح للعمال بالبقاء على الحياة‘ لا غير‘ و أيضا " المحافظة على نسلهم من دون زيادة أو نقصان" (65).  تعتبر هذه النظرية أن العرض في اليد العاملة يكون مطاطيا تماما عندما تكون الأجور لا تسمح سوى بالمعاش (66)؛ أما إذا ارتفعت الأجور عن هذا المستوى – و إذا ما تجاوزت إمكانيات العمال المعيشية حدود المعاش – فإن  مجموع السكان و مجموع النشيطون يميلون إلى إعادة إنتاج أنفسهم بشكل أسرع و هو ما يجعل‘ حسب نظرية مالتوس‘ الزيادة في العرض على اليد العاملة ترجع بالأجور إلى مستوى المعاش. كذلك‘ إذا كانت الأجور أدنى من ثمن المعاش أو أدنى من الثمن الطبيعي فإن الساكنة ستتناقص‘ لكن النقص الحاصل في اليد العاملة  يؤدي إلى الزيادة من جديد في الأجور و بالتالي  في السكان إلى أن يحصل التوازن بينهما.
                                                                                         
    35. بالإضافة إلى نظرية التكديس‘ يُكوﱢن مبدأ المردودية التراجعية و مبدأ الضغط السكاني على وسائل المعاش ‘ و هما مبدأين أساسين في المذهب الكلاسيكي‘ القاعدة التي يقوم عليها تصور المدرسة الكلاسيكية للتنمية الاقتصادية على المدى البعيد و التي تخلص إلى "الحالة المستقرة" للاقتصاد و للمجتمع. كان الاقتصاديون الكلاسيكيون‘ على غرار من جاء من بعدهم ‘يعتبرون بأن الربح هو المحرك الأساسي للتنمية الاقتصادية و بخاصة لتكوين الرأسمال و أنه بقدر ما تسمح الاستثمارات الإضافية بالمزيد من الربح‘ بقدر ما يستمر تكديس الرأسمال و يزداد الطلب على اليد العاملة. يؤدي هذا الطلب على اليد العاملة إلى أجور فوق مستوى المعاش و بالتالي إلى التزايد السكاني كما تتوقعه نظرية مالتوس‘ إلى حين الوصول إلى نقطة  تصبح فيها مساحة الأراضي ثابتة فتبدأ المردودية  الفلاحية في التراجع  و الأجور و الأرباح في الانخفاض. تستمر هذه الصيرورة حتى تصل الأجور إلى مستواها الأدنى – مستوى المعاش – فتنعدم عندئذ الأرباح و يتوقف تكوين الرأسمال و يستقر الدخل.

    36. كان احتمال الاقتصاديين الكلاسيكيين و من تبعهم في توقف التنمية الاقتصادية بارتباط مع التزايد السكاني ضئيلا و رغم ذلك اعتبروا بأن الحالة المستقرة آتية لا محالة. كان آدم سميث غير متأثر بتشاؤم المدرسة الكلاسيكية و يظن بأن النزوع إلى المقايضة قد يخلق تخصصا  بإمكانه أن ينمو باستمرار و أن يُحفز على التقدم التقني و يُطور الأسواق (68). يرى سميث بأن التزايد السكاني يُسهل تقسيم العمل عن طريق توسيع السوق و تحفيز الابتكار. عندما يكون تقسيم العمل متقدما يكون الإنتاج مرتفعا و كذلك الدخل و تكوين الرأسمال‘ و ترتفع تباعا لذلك كتلة الأجور و كذا الطلب على اليد العاملة و هو ما يعني ظهور ظروف اقتصادية تتلاءم مع التزايد السكاني. يشاطر إﭭريت الفكرة القائلة بأن التزايد السكاني  يشجع على "تقسيم العمل و بالتالي على الرفع من مستوى التخصص" . كان يؤكد على أن عاقبة ذلك هو انتشار الصناعات التحويلية و التجارة و ارتفاع الأجور بفضل ارتفاع الإنتاجية (69).  في تقدير سينيور يتجه معدل  تقدم وسائل المعاش بطبيعة الحال إلى التفوق عن معدل تزايد السكان (70). أمّا كاري فهو يُلح على ما أسماه " القوة التشاركية"  التي يُفترض أن تزداد بازدياد السكان و تسمح بتنويع الشغل و تحسين قيمة الكفاءات و الرفع من الإنتاج الفردي (71).   في تقدير بعض النقاد الأمريكيين الأوائل للنظرية الكلاسيكية و بخاصة لأفكار مالتوس تساهم الكثافة السكانية القوية في  جعل تقسيم العمل أكثر سهولة (72). اعتبر ريكاردو‘ و هو أحد المنظرين الأكثر تشاؤما‘ أنه يمكن الحد من المنحى الطبيعي لتراجع الربح و ما ينجم عنه من ركود بتطوير الآلات و باكتشافات علوم الفلاحة (73). كان يرى في المجتمعات‘ حيث تكوين الرأسمال هو أحد محركات التقدم ‘ أن الأجور التي يتم عرضها في السوق – أي الأجور الفعلية – يمكن أن تبقى مرتفعة عن المعدل الطبيعي أو عن مستوى المعاش ‘ و أن الطلب الحاصل على اليد العاملة يُحفز بشكل مستمر على التزايد السكاني. افترض  ستيوارت ميل مبدأ مالتوس في السكان وكذا حتمية "الحالة المستقرة" و اعتبر في نفس الوقت بأن الإصلاحات الاجتماعية و التقدم في التعليم و العلوم و الفنون و تطوير التخصص و الرفع من الأداء الاقتصادي كلها من  العوامل التي بإمكانها ضمان  التقدم الاقتصادي على المستوى البعيد. في رأيه لا يمكن لبلد في حجم انجلترا أن يستمر في استيراد المواد الغذائية إلى ما لانهاية‘ كما أكد  بأن الهجرة إلى الخارج(*) يمكن أن تخفف من حدة المشكل الذي يطرحه الضغط السكاني دون أن تجد له حلا بشكل نهائي (74). بعض المفكرين الآخرين اعتبر بأن الهجرة إلى الخارج و التجارة الدولية ( بفضل تبادل المنتجات التحويلية  بالمواد الغذائية ) تسمح بالتخفيف من آثار قانون المردودية الفلاحية التراجعية (75).

    (*) شكلت الهجرة إلى ما وراء البحر في تاريخ أوروبا السائرة في طريق التصنع حلا مهما للمشاكل العويصة التي طرحها التزايد السكاني آنذاك و كذلك في تكوين الرأسمال و هما عاملان أساسيان في التطور التاريخي للبلدان الغربية الصناعية و الذي يختلف عن تطور البلدان المستعمرة سابقا و السائرة في طريق النمو.

    37. كانت المدرسة الكلاسيكية تعتبر السكان‘ من الناحية النظرية أساسا‘ متغيرة تابعة (غير مستقلة) و أن العرض على اليد العاملة يكون مطاطيا تماما عندما تكون الأجور في مستوى المعاش (76). دافع عن هذه الفكرة جل الاقتصاديين المنتمين إلى هذه المدرسة. حسب آدم سميث "الإنتاج هو الذي  يُحدد بالضرورة الطلب على العمال و على جميع الخيرات " (77). يعتبر ريكاردو بأن عدد السكان " يتغير بشكل طبيعي حسب كتلة الأجور المتوفرة و لذلك فإنه يزيد أو ينقص بالضرورة بزيادة أو نقصان الرأسمال المستثمر" (78). نفس الاعتبار نجده في فكرة مالتوس التي تقول بالضغط السكاني على وسائل المعاش و عدم تحقيقه للثروة بشكل دائم (79) ونجده كذلك  في أفكار كلاسيكيين آخرين  أمثال جامس ميل و سينيور و ماك كولوخ (80).

    38. فضلا عن ذلك ربط أصحاب المدرسة الكلاسيكية أفكارهم حول التنمية الاقتصادية‘ التي تقول بإمكانية تعطيل "الحلة المستقرة" بواسطة التقدم التقني‘ بالمسألة السكانية معتبرين في ذلك إمكانية تأثر التزايد السكاني بعوامل أخرى غير تلك التي تفرضها وسائل المعاش المحدودة. أثار ريكاردو إمكانية التقليص العفوي لهذا التزايد بواسطة إنعاش "ذوق الرفاهة و اللذة" في الطبقات الشغيلة لأن ذلك‘ في تقديره‘ هو أفضل وسيلة لتفادي كثرة السكان (81).كان سينيور أكثر اعتدالا عندما أكد بأن ما يحد من الأهمية العددية للسكان لا يوجد"سوى في الآفات الجسمية أو المعنوية أو في الخوف من عدم الانتفاع بالملذات التي خلقتها العادة  وأصبح الفرد في حاجة إليها". يظهر اعتدال سينيور في كون تحديد النسل عنده هو تحديد ذاتي (82). في تقدير ستيوارت ميل يمكن للساكنة أن تتضاعف كل 20 سنة تقريبا‘ كما قال مالتوس‘ و أضاف إلى ذلك تمييزا على قدر بالغ من الأهمية بين البلدان المتقدمة اقتصاديا و البلدان الأقل تقدما. كان يرى بأن المجاعة و البؤس في هذه البلدان الأخيرة معيقات للتزايد السكاني بينما في البلدان المتقدمة يكون الخوف من الفاقة و هاجس تحسين الظروف المعيشية من العوامل التي  تحصر هذا التزايد‘ وتباعا لذلك تهتم هذه البلدان بتحديد عدد الولادات " احتياطيا و وقائيا و اختياريا". كانت حوافز و ممارسات تحديد النسل معروفة عند الطبقة الوسطى و كان ميل يرى بأنها ستمتد تدريجيا و بدون شك إلى الطبقة العاملة عندما يتم الرفع و لو شيئا فشيئا من مستواها المعيشي (83).

    39. كانت مساهمة المؤلفين الانجليز في المدرسة الكلاسيكية أهم  و لاشك من مساهمة الآخرين من بلدان أخرى لكن مساهمة هؤلاء تسترعي الانتباه  ليس فقط لأن أفكارهم تتقارب مع أفكار الأوائل و لكن أيضا لأنهم  كانوا أكثر تفاؤلا فيما يتعلق بتصورهم للسكان (84). يرجع فون ثينن ( ألمانيا) تغير الأجور إلى النقص الحاصل في هامش الإنتاجية و إلى استغلال اليد العاملة من طرف أرباب العمل وهي وضعية‘ في تقديره‘ ناجمة أساسا عن التزايد السريع للسكان  التي يمكن تجاوزها بتغيير علاقة الشغل بالرأسمال (85). أكد بعض الاقتصاديين الفرنسيين أمثال ساي ‘ داستيت ‘ تراسي‘ كورسال – سنوي‘ لياس و غيرهم على التأثير الكبير الذي يمارسه توزيع الدخل على النمو السكاني. في تقديرهم تتغير الأهمية العددية للسكان تغيرا عكسيا مع  الاستهلاك الفردي ‘الذي يتغير هو الآخر حسب درجة اللامساوات في الدخل (86). نفس الأفكار نجدها عند فون شتورش مؤسس المدرسة الألمانية – الروسية للاقتصاد السياسي (87). دافع غارنيي على أفكار مالتوس لكن كان أكثر تفاؤلا منه لأنه كان يعتقد بأن الحذر و تكوين الرأسمال و تحديد حجم الأسرة‘ الخ.‘ كافية للوقاية من الفقر (88). لاحظ  آنذاك توكر‘  و هو من أتباع مالتوس في الولايات المتحدة الأمريكية‘  بأن النمو الطبيعي للسكان بدأ يتقلص (89).

    2. نقد نظرية مالتوس من طرف المؤلفين الغير إشتراكيين  
    40. احتج بعض مؤلفي تلك الفترة اللامنتمين للاشتراكية  على نظرية المدرسة الكلاسيكية  في السكان. تنحصر الانتقادات الموجهة إلى هذه المدرسة في اعتبارات إما اقتصادية و إما سكانية محضة. تُظهر الانتقادات الاقتصادية بأن مجموعة من العوامل مثل التقدم التقني و تقسيم العمل و توسع الإنتاج و التجارة تبدو غير متناسبة مع الأفكار الكلاسيكية حول التقدم التقني و الأجور و السكان؛ أما الانتقادات ذات الطابع السكاني المحض بما في ذلك تلك التي تتعلق بالظرفية أو بمعاينة المنحنيات السكانية و تطور معدلات الولادة  فهي تُفند على ما يبدو اقتراحات مالتوس و المدرسة الكلاسيكية السكانية.

    41. كما ذكرنا سابقا أظهرت بعض كتابات المدرسة الكلاسيكية بأن فكرة "الحالة المستقرة" لا تحدث بالضرورة عاجلا و لا هي بحتمية كما يبدو من الوهلة الأولى. في فترة لاحقة‘ أعار بعض منتقدي المدرسة الكلاسيكية  اهتماما للإمكانيات التي يتيحها التقدم التقني. في نظر لوروا بوليو يسمح التقدم التقني و تكديس الرأسمال و تطور التقسيم الدولي للعمل بالزيادة المستمرة في الإنتاج الفردي (90).حسب أوبنهايمر يظهر من التحسن المستمر لظروف عيش الجماهير  بأن تحسن الإنتاجية في الصناعة التحويلية قادر على أن يعوض بشكل وافر المردودية التراجعية في الفلاحة (91).

    42. في بداية القرن التاسع عشر رفض بعض المؤلفين فكرة المدرسة الكلاسيكية رفضا تاما و اعتبروا منحى ارتفاع الإنتاجية عاملا مهيمنا على جميع العوامل الأخرى. كانوا إما يتجاهلون ببساطة وجود قانون المردودية التراجعية و إما يحصرونه فقط في الفلاحة مع التركيز على أن آثاره يمكن أن تُعوض بشكل وافر بقانون المردودية التصاعدية‘  بفضل التقدم التقني أو بفضل تضافر هذين العاملين معا‘ في القطاعات الغير فلاحية. اعتبر آخرون بأن التزايد السكاني و ارتفاع الكثافة يساعدان على الرفع من الإنتاجية. توجد أفكار شبيهة بهذه عند بعض مؤلفي المدرسة الكلاسيكية مثل آدم سميث الذي كان يعتبر بأن التزايد السكاني هو سبب و نتيجة في آن واحد للتقدم الاقتصادي (**).

    (**) الواقع أن التزايد السكاني في بلدان أوروبا الصناعية جاء بعد و ليس قبل إقلاعها الاقتصادي.

    43. يمكن تصنيف معارضي مالتوس إلى ثلاث مجموعات رئيسية (92): ترى المجموعة الأولى بأن العوائق الوقائية  تعمل أكثر فأكثر على تقليص التزايد السكاني ‘ لكنها لا تعطي أدلة على ذلك. تتكون هذه المجموعة من كل من حازليت الذي كان يقول بأن الإكراه الأخلاقي لا يكفي (93) للحد من السكان(***)‘ و هاملتون الذي كان يرى بأن معدل التزايد السكاني ينخفض مع تقدم الحضارة (94)‘ و مورتون الذي  كان يرى في عدم قدرة الطبقات العليا على التجدد و بالتالي في إمكانية الرقي الاجتماعي وسيلة لتعميم انخفاض معدلات الإنجاب على جميع مستويات المجتمع (95)‘ و وايلاند الذي كان يرى بأن التزايد السكاني سيتوقف عندما تتقوى نسبة السكان الحضريون لأن معدلات الولادة تنخفض بالمدن (96)‘ و غيرهم من المؤلفين الذين كانوا يتوقعون الارتفاع في مستوى المعيشة و بارتباط مع ذلك التقلص في التزايد السكاني المبالغ فيه (97).

    (***) الواقع أننا هنا بصدد الانفصال بين الأخلاق التقليدية و الواقع السكاني ذلك أن الأخلاق في المجتمعات الما- قبل صناعية وظيفتها هي المحافظة على لحمة المجتمع على منوال تراتبية  العشيرة أو القبيلة أو العلاقات الإقطاعية... و هي تتجه إلى ما هو اجتماعي أكثر مما تتجه إلى ما هو اقتصادي الذي هو شأن التقدم العلمي و التقني‘ علما بأن الاقتصاد و التقنية هما قيمتان وسيطتان بين ما هو مقدس و ما هو مدنس؛‘ ولقد رأينا فيما قبل  فكرة مالتوس في ضرورة تطوير الأخلاق‘ أي الانتقال من أخلاق تقليدية شعبية تشجع الإنجاب إلى أخلاق معاصرة تقلص منه و يفرضها الوعي بالظروف الاقتصادية و الاجتماعية الجديدة؛ ولعل من المفيد بحث مسألة الإصلاح الديني في أوروبا على ضوء هذه المعطيات.  

    43. حاول مؤلفو المجموعة الثانية إقامة الدليل على أن العوائق الوقائية هي نتيجة للتقدم الاقتصادي و الاجتماعي‘ وهي فكرة مستوحاة من الكتب الأخيرة لمالتوس. لاحظ هذا الأخير بخصوص الوضعية السائدة آنذاك في انجلترا‘ أن " التنمية التي تتجاوز بقدر كبير حاجيات الإنسان الأساسية لم يقابلها تزايد مرتفع للسكان". بعدما ارتفع  إحساس الطبقات الدنيا من المجتمع باحترام الذات و أيضا باحترام الآخرين لها استخدمت هذه الطبقة الارتفاع المهم في أجورها الفعلية  ليس فقط في التزايد السكاني و لكن كذلك في تحسين نظامها الغذائي  بشكل واضح و تطوير عناصر الرفاهة من أجل متعتها بشكل محسوس (98). علاوة على هذه الآراء المتشابهة (99) اعتبر كل من ريكارس (100) و أليزون (101) بأن العمال يميلون إلى تحسين مستواهم المعيشي بعد ارتفاع أجورهم الفعلية‘ لكنهم  سيصبحون غير مستعدين للتنازل بسهولة عن هذا المستوى المعيشي الأفضل؛ فبقدر ما ترتفع كرامتهم بقدر يتشبثون بوضعهم الاجتماعي الجديد و ذلك بتأخير الزواج و تقليص حجم عائلاتهم و غير ذلك من الوسائل (****).

    (****) يساهم تحسن الوضعية الاقتصادية و الاجتماعية في تبني الآباء لتحديد النسل بطريقة اختيارية.


    45. أكد أصحاب المجموعة الثالثة الغير مقتنعين بنظرية مالتوس السكانية على حتمية أهمية تقليص الخَصِب  الطبيعي  (القدرة الطبيعية على الإنجاب)  على إثر الاصطفاء الاجتماعي و التحولات الطارئة في الوسط الاجتماعي المصاحبين للتطور الاقتصادي. رأى البعض منهم في تزايد النشاط الفكري و علاقات القرابة و تحولات النظام الغذائي  سببا في تقهقر الخصب البشري (102). صاغ سبنسر نظرية تقول بتعارض ملكة الحفاظ على البقاء و ملكة الإنجاب (103).

    46. في الواقع يعزى الجزء الأكبر للانتقادات الموجهة إلى مالتوس إلى التوجهات السكانية الفعلية  التي أصبحت معروفة أكثر من ذي قبل. حسب بلوڭ لا يوجد اقتصاديا واحدا يتحدث عن نظرية مالتوس بعد عام 1825 دون أن يتطرق إلى الظواهر التي تمت ملاحظتها و التي تفند هذه النظرية.

    3. المدرسة الكلاسيكية الجديدة و نظرية السكان
    في أواخر القرن التاسع عشر تمت مراجعة العديد من الفرضيات التي بنت عليها المدرسة الكلاسيكية نظريتها في التنمية الاقتصادية و السكان. انخفضت معدلات الولادة في  عدد كبير من البلدان الغربية و في بعضها ساهمت الهجرة في تقلص النمو الطبيعي للسكان. ساعد استيراد المواد الغذائية ‘ عند الضرورة‘على تعويض الخصاصة في الإنتاج الفلاحي. بارتباط مع ذلك‘ ازداد الاعتقاد أكثر فأكثر في أن التقدم التقني و تطور الكفاءات و الزيادة في الثروة المنتجة للخيرات المادية و تطور العوامل الاجتماعية بإمكانها الحد تماما من منحي المردودية التراجعية. فضلا عن ذلك ‘ بنت المدرسة الكلاسيكية الجديدة تحليلها للمشاكل القارة و المنهجية على المدى القصير أساسا و انصب اهتمامها على عناصر مثل العلاقات البينية بين مختلف أجزاء الاقتصاد‘ نظرية التوازن و توزيع الموارد أكثر مما انصب على  مشاكل السكان و التنمية الاقتصادية على المدى البعيد (105).   مع ذلك‘ بقي النقاش يدور حول القضايا التي أثارها مالتوس و النظرية الكلاسيكية.

    48. حوالي أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين أكد جميع الاقتصاديين على أن قانون المردودية التراجعية  يمكن تطبيقه‘ في جميع الحالات‘على عموم الاقتصاد (106). هذا يعني أيضا أنه في حالة تجاوز العلاقة بين اليد العاملة و الموارد لحد معين فإن كل ازدياد جديد للسكان  سيؤدي إلى انخفاض الإنتاج المتوسط لكل عامل . جاء الرد على ذلك باعتراف جل هؤلاء المؤلفين بأنه من غير الممكن تطبيق هذه الوصفة بحذافيرها كما اعتبروا ظهور المردودية التراجعية و ما ينجم عنها من آثار التزايد السكاني على الدخل هي مشروطة بالتقدم التقني‘ بتخصص و تقسيم العمل ‘ بأهمية الاقتصاد الوطني و بحجم المقاولات‘ الخ. يمكن لهذه العوامل‘ في رأي الكثيرين‘ أن تُحدث تحولات تضفي إلى تأخير إلى ما لانهاية المردودية التراجعية‘ بل و تلغي مفعولها تماما (107).

    49. آمن مرشال بالخصوص بأسبقية هيمنة المردودية التصاعدية. كان يقول "إذا كانت الطبيعة‘ بحكم الدور الذي تلعبه في الإنتاج‘ تعطي الأفضلية على ما يبدو للمردودية التراجعية‘ فإن تدخل الإنسان يصير في اتجاه معاكس" (108).  في كتب أخرى أشار مارشال إلى أن تحسين الزراعة‘ و تطوير الطرق والسكك الحديدية و الأسواق تعمل في اتجاه معاكس للمردودية التراجعية (109). في نظره ترتفع المردودية بفعل نزوع الاقتصاديات الخارجية و إلى حد ما الاقتصاديات الداخلية إلى الارتفاع مع  الحجم الإجمالي للإنتاج؛ هذه الاقتصاديات هي نتيجة  لتقدم المعرفة‘ و للتخصص المتطور في اليد العاملة و الآلات‘ و لتمركز أفضل للمقاولات و ازدياد حجمها‘ و للاستعمال الاقتصادي المطرد لعوامل و لمواد الإنتاج‘ و لتطوير وسائل المواصلات وجعلها أكثر سرعة من ذي قبل‘ و  لتسويق أفضل للمواد ولتطورات أخرى في ميدان التنظيم (110). يمكن ربط جميع هذه التحولات بالازدياد الحاصل في الحجم الإجمالي للإنتاج بحيث أن ارتفاع المردودية يمكن أن يحصل بواسطة التزايد السكاني و في آن واحد بواسطة عوامل أخرى تعمل على الرفع من الإنتاج (111)؛ و هذا ما يفسر كون مارشال صنف التزايد السكاني ضمن العوامل التي قد ترفع عموما من الدخل الفردي خاصة و أنه يسمح بتطوير الصناعة و يثير الابتكار و الاختراع أو لأنه مذر لأرباح يمكن تحقيقها بفضل تنظيم أفضل للإنتاج (112).  في رأيه  يؤدي  " التزايد السكاني المُصاحب بالتزايد نفسه في القيمة الإنتاجية و النفعية للموارد الطبيعية " إلى ارتفاع  مناسب أو أكثر من  مناسب في  قيم الانتفاع شريطة الحصول من غير صعوبة كبيرة على كمية كافية من المواد الأولية و أن لا  تكون كثرة السكان مضرة  بالصحة العمومية و بإمكانيات الترويح عن النفس (113)؛ في نظره ينبغي للتزايد السكاني أن يكون في صالح البلدان المتقدمة‘ لكن هذا لا يمكن أن يستمر على الدوام كما أن الآثار الإيجابية للتزايد السكاني لا تمتد إلى جميع البلدان. يرى مارشال أيضا بأن التزايد الغير منقطع للسكان تكون له انعكاسات وخيمة على  مستوى المعيشة في حالة وجود مساحات محدودة لأراضي  البلد إلى درجة يصبح فيها الإنتاج الفلاحي غير مطاطيا؛ و إذا لم تتقدم التقنيات الفلاحية من المنتظر أن ينخفض هامش المردودية في بلد عريق  مثل انجلترا حيث جميع الأراضي مستغلة. في ظروف مثل هذه  تعرف انجلترا‘ و بلدان أخرى متشابهة معها‘ خطرا يتهددها بالمزيد من تدهور الأوضاع؛ و قد تفقد انجلترا‘ جراء ذلك‘ مكانتها  كبلد صناعي بالدرجة الأولى  و هو ما ينعكس سلبا على مبيعاتها للخارج  مقابل مشترياتها للمواد الغذائية و يُحدث عدم التوازن في التبادل التجاري (114)؛ و بما أن الموارد محدودة يرى مارشال من الضروري منع الشباب بالزواج مبكرا أو قبل أن تسمح لهم إمكانياتهم بذلك‘ تفاديا لتزايد سكاني قد يضر بالجماعة (115). لا يمكن للبلدان الأقل تقدما تفادي قانون الأجور... و تحقيق مستوى معيشي مشابه لمستوى البلدان المتقدمة إلا إذا تم تقنين عدد سكانها تقنينا ناجعا (116).

    50. احتج بعض المؤلفين على قانون المردودية المتصاعدة الذي جاء به مارشال  كما أن آخرون أعابوا عليه استخفافه للمشاكل المرتبطة  بتقدم الفعالية في الأداء و الإنتاج الناجم مبدئيا عن  ارتفاع العرض في الرأسمال و في اليد العاملة (117). لاحظ ويكسيل أن  إمكانية تحقق "قانون" مارشال مرتبطة بافتراضه‘ الغير مقبول إطلاقا ‘ على  "أن المواد الأولية الضرورية سوف تتوفر بكميات غير محدودة و بأسعار قارة أو شبه قارة". كان ويكسيل يرى بأن قانون المردودية المتصاعدة صالح لبعض الوقت فقط وأن القانون المعاكس هو الذي يفرض نفسه على المدى الطويل (118). أشار وولف إلى أن الموارد الطبيعية تضع دائما حدا للإنتاج فضلا عن كون هذا الحد قليل المطاطية و يختلف حسب البلدان و حسب الفترات وحسب الموارد المتاحة و طريقة تدبيرها. إذن يؤدي التزايد الغير منقطع للسكان في نهاية المطاف إلى دخول قانون المردودية التراجعية  على الخط و هو ما يفرض إعادة توجيه السياسة الاقتصادية و الاجتماعية بهدف الحفاظ على التقدم المستمر للوضعية المادية الصحية للسكان (119). تقرر العوامل الطبيعية‘  في تقدير بودج‘ حدود التقدم البشري أكثر مما تقرره المؤسسات الاجتماعية وقال بأن  السكان يتكاثرون أكثر من وسائل معاشهم‘ و هو لا يتفق  مع فكرة التعويض الدائم لتراجع مردودية الفلاحة بواسطة تحسين التقنيات المستعملة في هذا القطاع أو بواسطة تقدم المردودية في الصناعة و النقل؛ و رفض أيضا فكرة  ارتفاع الإنتاج الفردي نتيجة لتزايد السكان (112). شدّ وولف الانتباه إلى محدودية  التقدم التقني معبرا بذلك عن رفضه لوجود مخرج من المشكل المالتوسي الذي طالما بحث عنه الكثير من المؤلفين. بعدما وضع أربعة عوامل تحد في نظره  من التطور الاقتصادي قام بصياغة أربعة "قوانين تؤخر التقدم". حسب أحد هذه القوانين "يشكل كل تقدم تقني ...  عائقا أمام تقدم جديد" وذلك بتقليصه لعدد و لمدى الإمكانيات المتاحة في مجال معين لأن هذه الإمكانيات لابد أن تنتهي باستنفاذ مخزونها وبالتالي لا يمكن للتقدم التقني أن يذهب أبعد من ذلك (121). توجد وسائل عدة‘ في تقدير مومبير‘ لاحتواء منحنيات قانون المردودية التراجعية في الفلاحة و محدودية إمكانيات التقدم التقني التي أشار إليها وولف لأنه كان لا يستبعد إمكانية استمرار تحسن مستوى المعيشة  لبعض الوقت دون أن يحصل هناك بالضرورة ضغطا سكانيا على  وسائل المعاش (122).          

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 26, 2024 1:22 pm